Sunday, 7 September 2025

جاري التحميل...

جاري التحميل...

عاجل
عودة: وحدهما الغفران والمسامحة ينتشلان البلد من دوامة الصراعات

عودة: وحدهما الغفران والمسامحة ينتشلان البلد من دوامة الصراعات

August 24, 2025

المصدر:

وكالة الأنباء المركزية

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس. وبعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "يقدم لنا الرب يسوع في المقطع الإنجيلي الذي سمعناه اليوم مثلا عن ملك أراد أن يحاسب عبيده، فوجد أن على أحدهم دينا عظيما لا يستطيع سداده، عشرة آلاف وزنة تشكل مبلغا خياليا يعجز إنسان عن رده. أمر السيد ببيع العبد مع إمرأته وأولاده وكل ما له، وفاء للدين. لكن العبد ركع متوسلا الرحمة، واعدا بأنه سيوفي كل ما عليه، فتحنن السيد وأطلقه وترك له الدين بأسره. غير أن هذا العبد، بعدما خرج من حضرة الرحمة، وجد رفيقا مديونا له بمئة دينار، وهو مبلغ زهيد مقارنة بما غفر له، فأمسكه وعنفه وأخذ يخنقه مطالبا إياه بإيفاء الدين، ولم يقبل توسله بل ألقاه في السجن حتى يوفي ما عليه. عندما عرف السيد بما جرى غضب وأسلمه إلى المعذبين حتى يوفي دينه الكبير. وختم الرب المثل بقوله: «هكذا أبي السماوي يصنع بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد منكم لأخيه زلاته».

أضاف: "يفتح هذا المثل نافذة على قلب الله ورحمته، كما يضعنا أمام مرآة لنتأمل في قساوة قلب الإنسان. فالدين الذي كان على العبد الأول يرمز إلى خطايانا تجاه الله، وهي أكثر من أن تحصى، وأثقل من أن نستطيع ردها بأعمالنا. كل منا مدين أمام الله ليس فقط بأفعاله الشريرة بل أيضا بإهماله وأفكاره وسوء أخلاقه وفشله في المحبة الكاملة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: «كما أن من يترك جزءا من الوصية هو كمن تركها كلها، هكذا من أهمل أن يحب أخاه قد نقض الناموس كله». مع ذلك، فإن الله لا يقابلنا بالقساوة بل يفيض علينا رحمة وغفرانا لا حد لهما، متى رجعنا إليه بتوبة صادقة. الملك الذي ترك دين عبده يرمز إلى الرب الذي «لا يشاء أن يهلك الناس، بل أن يقبل الجميع إلى التوبة» (2بط 3: 9) و«أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون» (1تي 2: 4 ). لكن المشكلة تبدأ حين ننسى ما غفر لنا، ونتعامل مع إخوتنا بقلب حجري ومكيال صغير. إن مشهد العبد الذي خنق رفيقه لأجل مئة دينار هو صورة صارخة عن قساوة القلب البشري حين يتعامى عن رحمة الله نحوه. يقول المغبوط أغسطينوس: «يا من غفر لك دين لا يحصى، كيف لا تغفر لمن أخطأ إليك قليلا؟ إنك بذلك تحكم على نفسك بأنك لم تفهم نعمة الغفران».

وتابع: "لا يقتصر هذا المبدأ على لحظات محددة في الحياة، بل هو قاعدة أساسية في طريق الخلاص. الرب علمنا أن نصلي: «أترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمن لنا عليه». هذه ليست مجرد كلمات، بل عهد نعلنه أمام الله بأننا نريد التشبه برحمته. وإذا كنا لا نغفر من القلب، فإننا عمليا نطلب إلى الله أن يتعامل معنا بالمثل. لذلك يقول الذهبي الفم: «لا تطلب إلى الله ما ترفض أنت أن تعطيه لغيرك». في حياتنا اليومية، تظهر مواقف لا تعد نستفز فيها أو نجرح أو نتعرض للإهانة. قد تكون كلمة قاسية من قريب، أو ظلما في العمل، أو خيانة من صديق، أو إساءة على وسائل التواصل الإجتماعي. هذه المواقف تجرب قلوبنا وتكشف إن كنا قد تعلمنا من الملك الرحوم أو نشبه العبد القاسي. فالغفران ليس شعورا عاطفيا سطحيا، بل فعل إرادة نابع من وعي عميق للنعم الممنوحة لنا من الله، وإدراك لعمق محبته وعظيم رحمته. رب قائل إنه لا يستطيع أن ينسى الشر أو الإساءة، إلا أن الغفران لا يعني محو الذاكرة، بل أن نختار ألا نبقي الجرح سلاحا ضد الآخر، وأن نصلي من أجله طالبين أن يفتقده الله بنعمته. عدم تخطي الشر والإساءة يبقى الشيطان الذي يستغل لحظة الضعف فينا ليوقظ مشاعر الحقد والإنتقام. الغفران لا يبرر الشر ولا يلغي العدالة، بل يحرر قلوبنا من سلاسل الحقد والكراهية. العبد الذي رفض أن يغفر ألقي في السجن، وهذا رمز للسجن الداخلي الذي يعيشه القلب حين يتمسك بالمرارة والحقد. من يحقد يحمل في قلبه سجنا صغيرا يدخله بإرادته، فيفقد سلامه وفرحه ويغلق على نفسه باب السماء. كذلك ينسى أفعاله وأنه هو أيضا سيقف في يوم من الأيام أمام ديان عادل يسأله: هل رحمت أخاك كما أنا رحمتك؟"

وقال: "يعلمنا الآباء أن الحياة المسيحية ليست طقوسا أو معرفة لاهوتية وحسب، بل تطبيق عملي ومسيرة نحو التشبه بالمسيح الذي غفر لصالبيه وهو معلق. فإذا كان الرب البريء قد غفر لقاتليه، فكم بالحري ينبغي علينا نحن الخطأة المديونين، أن نغفر لإخوتنا؟ يقول القديس إسحق السرياني: «القلب الرحوم هو موضع سكنى الله، ومن لا يرحم فقد أغلق قلبه عن نعمة الروح». إن مثل اليوم دعوة عملية لنا. فحين نجد أنفسنا في مواجهة من أساء إلينا، علينا أن نتذكر أولا كم أسأنا إلى إخوتنا الذين سماهم المسيح إخوته، وكم أسأنا إلى الله، وكم غفر لنا بدم ابنه. علينا أن نتذكر أننا كنا عبيدا محكومين بالموت، فأطلقنا الملك السماوي مجانا. حين نغفر لا نفضل على الآخر، بل نحفظ غفران الله علينا، ونختبر حرية القلب وسلامه. وإن وجدنا قلبنا عاجزا عن الغفران، فلنطلب إلى الله أن يلينه، ولنترك له، هو الديان العادل، الحكم العادل علينا وعلى من أساء إلينا. كم نحن بحاجة في بلدنا إلى الغفران وتخطي الأحقاد والخلافات، والتعلم من الماضي من أجل بناء مستقبل سلامي، مستقر، آمن ومزدهر. وحدهما الغفران والمسامحة ينتشلان البلد من دوامة الصراعات والإتهامات والإدانات المتبادلة. يقول بولس الرسول: «الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله» (رو3: 23 ). الغفران يتطلب توبة من الجميع «لأن ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله» (مت 19 :17 ) الذي هو وحده كامل، كما يتطلب تواضعا لكي يعترف الجميع بأخطائهم، بغض النظر عن حجمها. ولنترك الأمر للعدالة الإلهية متذكرين قول الرب: «أيها العبد الشرير، كل ما كان عليك تركته لك لأنك طلبت إلي، أفما كان ينبغي أن ترحم أنت أيضا رفيقك كما رحمتك أنا؟»

وختم: "دعوتنا اليوم أن نحمل في قلوبنا وصية الملك السماوي، عالمين أننا، إن غفرنا من القلب، نعيش منذ الآن في رحاب ملكوت الله، حيث لا مكان للديون القديمة، بل حياة في المحبة التي لا تزول".

 

Posted byKarim Haddad✍️

 المطران الياس عودة: الساكت عن الظلم ليس بريئا بل مشارك في الإثم والخطيئة
September 7, 2025

المطران الياس عودة: الساكت عن الظلم ليس بريئا بل مشارك في الإثم والخطيئة

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عودة خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس. وبعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "يفتح إنجيل اليوم أمامنا بابا واسعا لفهم سر محبة الله للعالم، ولإدراك عمق التدبير الإلهي الذي تم من أجل خلاصنا. في الكلمات القليلة التي سمعناها نجد خلاصة التدبير الخلاصي كله حيث يتقاطع النزول والصعود، الموت والحياة، الدينونة والرحمة، في شخص واحد هو يسوع المسيح ابن الله المتجسد. يبدأ النص بتأكيد على أنه لا أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل منها، أي المسيح نفسه. فالطريق إلى الآب لا يفتح إلا عبر الإبن، لأنه هو وحده «ابن البشر الذي هو في السماء» الذي يعرف الآب معرفة كاملة، ويحمل إلينا حياة السماء. يقول القديس كيرللس الإسكندري: «إن المسيح نزل ليلتحم بنا، ويصعد ليحملنا معه». هنا يكمن سر التجسد، فابن الله صار إنسانا ليدخل الإنسان في شركة الحياة الإلهية. هذه ليست حركة رمزية أو مجازية، بل فعل حقيقي من المحبة الإلهية التي لا تقاس".

أضاف: "يشبه المسيح رفعه على الصليب برفع موسى الحية النحاسية في البرية، حين تذمر الشعب وأصابتهم الحيات القاتلة، فأعطاهم الله علامة للخلاص، هي حية نحاسية معلقة، من نظر إليها بإيمان نجا. هذه العلامة، كما يوضح القديس يوحنا الذهبي الفم، كانت «رمزا مسبقا للصلب»، حيث يعلق المسيح نفسه على خشبة ليبطل سم الحية القديمة، أي إبليس. كانت الحية أداة الموت منذ الفردوس، لكن المسيح جعل من صليبه دواء للحياة، محولا آلة الموت إلى ينبوع خلاص. إن النظر بإيمان إلى المسيح المرفوع يشفي من سم الخطيئة والموت، كما شفي العبرانيون من لدغات الحيات. «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد». إنها خلاصة الإنجيل كله. محبة الله ليست محبة عابرة ولا عاطفة بشرية، بل محبة إلهية جوهرية، دفعت الآب ليرسل ابنه الوحيد إلى الألم والموت من أجلنا. المحبة الإلهية ليست شعورا، بل عمل خلاصي وبذل حقيقي وتضحية لا محدودة. لم يكتف الله بأن يعطينا شريعة أو أنبياء أو كلمات تعزية، بل أعطانا ابنه الوحيد لنمتلئ منه ونخلص به. أحب الله العالم وبذل ابنه الوحيد « لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية». ليس الهدف من هذا البذل أن يدين الله العالم. كثيرون يظنون أن الله يترصد البشر ليدينهم على خطاياهم، لكن المسيح يوضح أن مقصده هو الخلاص لا الدينونة التي تحصل تلقائيا عندما يرفض الإنسان النور ويختار الظلمة. المبادرة الإلهية هي دائما للرحمة، كما يقول القديس إيريناوس: «مجد الله هو الإنسان الحي، وحياة الإنسان هي رؤية الله». الله لا يسر بهلاك الخطأة، بل يريدهم أن يتوبوا ويحيوا. هنا يظهر التباين بين فكر الله الساعي إلى الخلاص والمصالحة، وفكر العالم المادي الساعي وراء الكسب والتسلط والإنتقام والقصاص، وإلا كيف يفسر ازدراء القيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية، والمواثيق الدولية، وقتل الأبرياء، وتجويع الأطفال، ومحو المدن والحضارات؟ والساكت عن الظلم والقتل والإزدراء بحياة خليقة الله ليس بريئا بل مشارك في الإثم والخطيئة".

وتابع: "إذا نظرنا إلى واقعنا اليوم، نجد أن العالم لا يزال بحاجة ماسة إلى الرحمة والمحبة والتواضع والتوبة، وإلى فهم هذه العبارة: «لم يرسل الله ابنه ليدين العالم، بل ليخلص به العالم». فإذا كان قصد الله الخالق خلاص العالم، كيف للإنسان المخلوق أن يدين العالم أو يدمره؟ من يقتل ومن يدفع للقتل أو يتسبب به وبهدم بيوت الناس والعبث بحياتهم والتلاعب بمصيرهم يسيئ إلى خليقة الله التي افتداها المسيح بدمه ليخلصها. في هذا الزمن الذي يضج بالعنف والظلم والإنقسامات والحروب، حيث تبنى المجتمعات على البطش والأنانية، نحن بحاجة إلى اكتشاف حقيقة أن الله لم يتركنا رغم خطايانا وزلاتنا، بل دخل تاريخنا، شاركنا آلامنا وحمل ضعفنا ليحول الظلمة إلى نور واليأس إلى رجاء. في كل مرة ننظر إلى الصليب، علينا أن نتذكر أنه ليس علامة دينونة، بل علامة حب أقوى من الموت. هذه المحبة ليست فكرة عامة أو عاطفة مبهمة، إنما هي دعوة شخصية لكل منا. المسيح مات على الصليب «لكي لا يهلك كل من يؤمن به». لكن الإيمان ليس قبولا عقليا، بل تسليم كامل للذات، ودخول في علاقة حية مع المسيح. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: «ما لم يتحد بالمسيح لم يشف». الإيمان الحقيقي هو أن نتحد بالمسيح في حياتنا وأفكارنا وأعمالنا، وأن نسمح لمحبته أن تعيد تشكيلنا، حتى نصبح نحن أيضا أيقونات حية للمسيح في هذا العالم. وإذا كان الله قد بذل ابنه الوحيد من أجلنا، فكم بالحري علينا نحن أن نبذل أنفسنا بعضنا لأجل بعض، لأن المحبة التي اختبرناها في المسيح ليست لتحفظ لأنفسنا، بل لتفيض على الآخرين. في عالمنا الذي يمجد الفردية والمصلحة الشخصية، يطلب منا الرب أن نكون شهودا لمحبة غير مشروطة، مستعدة للعطاء والبذل حتى النهاية. هنا تبرز مسؤولية الكنيسة اليوم في أن تظهر وجه المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات، وأن تكون مكانا يشفى فيه الجرح البشري من سم الكراهية واليأس، وأن تعلن أن المحبة هي الكلمة الأخيرة في التاريخ، والفعل الأسمى".

وختم: "هذه الدعوة لا تعاش بسهولة، إذ تتطلب صراعا داخليا، وجهادا روحيا، وتواضعا وتخليا عن الأنا والكبرياء، وانفتاحا دائما على نعمة الله. لكننا لسنا وحدنا في هذا الطريق، لأن المسيح القائم حاضر معنا بروحه القدوس، يقوينا ويعضدنا وينير سبيلنا. فلنرفع أنظارنا نحو المسيح المصلوب، كما رفع العبرانيون عيونهم نحو الحية النحاسية، ناظرين إليه بإيمان حي، وواثقين بأنه وحده قادر أن يشفي جراحنا ويمنحنا حياة لا تزول. ولنسمح لمحبته أن تدخل قلوبنا وتحولها، لنصير نحن أيضا أدوات خلاص للآخرين، لا دينونة لهم. هكذا، نكون شهودا أمناء لخبر سار لا يشيخ: أن الله أحب العالم، وأحب كلا منا، حتى بذل ابنه الوحيد لنحيا فيه ونمجد اسمه القدوس إلى الأبد".