Sunday, 7 September 2025

جاري التحميل...

جاري التحميل...

عاجل
المطران عودة يدعو إلى التحرر من عبودية المال ومحبة الذات

المطران عودة يدعو إلى التحرر من عبودية المال ومحبة الذات

August 31, 2025

المصدر:

وكالة الأنباء المركزية

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس.

بعد قراءة الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "يخبرنا الإنجيلي متى اليوم عن شاب جاء إلى الرب وسأله عما يعمل من الصلاح ليرث الحياة الأبدية. سؤاله بذاته يبدو صالحا، إذ هو نابع من قلب يبحث عن الحياة الأبدية وعن الخلاص. لكن الرب العارف خفايا القلوب أراد أن يكشف له عمق الحياة، فأجابه أولا بما يتوافق مع فكر الشريعة: «إحفظ الوصايا». وعندما سأله الشاب: «أية وصايا؟» عدد له الرب الوصايا الأخلاقية في الناموس: «لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمك، أحبب قريبك كنفسك». أجاب الشاب بثقة أنه حفظها منذ حداثته، وتساءل عما ينقصه بعد، وكأنه يعلن أنه أتم الناموس كله. مع ذلك كان يشعر بأن شيئا لا يزال ناقصا. هنا لمس الرب الوتر الحساس في قلب الشاب، أي التعلق بالغنى. لم يطلب منه عمل رحمة عابرا، بل أن يتخلى تماما عما يملك، وأن يضع كل رجائه في المسيح وحده. يخبرنا الإنجيل أن الشاب مضى حزينا لأن أمواله كانت كثيرة، ولم يكن مستعدا أن يتخلى عنها لأن قلبه كان معلقا بخيرات الأرض. عندئذ قال الرب لتلاميذه «إنه يعسر على الغني دخول ملكوت السماوات» و«إن مرور الجمل من ثقب الإبرة لأسهل من دخول غني ملكوت السماوات». تعجب التلاميذ وفقدوا الأمل في خلاص أي أحد، لكن الرب أجابهم: أن هذا عند الناس غير مستطاع، وأما عند الله فكل شيء مستطاع".

أضاف: "يكشف لنا هذا الحدث أولا أن الحياة الأبدية ليست مسألة أعمال صالحة مجردة من القلب، بل هي اتباع للمسيح بكل الكيان. كان الشاب مستقيما بحسب الناموس، لكنه لم يكن حرا في قلبه من رباط حب المال. يعلمنا الآباء القديسون أن الخطيئة ليست فقط في كسر الوصايا ظاهريا، بل أيضا في عبودية القلب للأهواء. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن الغنى ليس شرا في ذاته، لكن الخطر يكمن في أن نصير عبيدا له، وأن نتعلق به فيصير إلها آخر في حياتنا. لا يقتصر الغنى هنا على المال، بل قد يكون أي أمر نضعه قبل الله، أكان مركزا أو كرامة أو مقتنيات إو راحة أو حتى رأيا أو موقفا. لم يدع المسيح جميع الناس ليبيعوا كل ما عندهم بشكل حرفي، بل دعا كل إنسان إلى وضع الله أولا في حياته، وأن يكون مستعدا للتخلي عن أي شيء يقف حاجزا بينه وبين الملكوت. يقول المغبوط أغسطينوس: «لم يطلب من الشاب أن يوزع ماله على الفقراء فقط، بل أن يتبع المسيح بعد ذلك، لأن العطية بلا اتباع المسيح لا تخلص». المطلوب إذا ليس فقط فعل الرحمة، بل تسليم الحياة بكاملها لله".

وتابع: "في حياتنا اليوم، قد نجد أنفسنا مكان هذا الشاب. قد نحفظ الوصايا والعقائد وأقوال الآباء وسير القديسين، لكن يبقى في القلب أمر نحبه أكثر من الله، شيء نتمسك به ونرفض أن نتركه. المسيح يقف أمامنا اليوم كما وقف أمام ذلك الشاب سائلا: هل أنت مستعد أن تملكني قلبك بالكامل؟ هذا السؤال ليس نظريا، بل عملي، لأن التخلي عن الغنى بكل أشكاله، أي التعلق بالماديات الزائلة وبالألقاب والمراكز والمنافع، يتطلب جهادا حقيقيا. هنا نفهم كلام الرب على صعوبة دخول الغني إلى الملكوت. ليست المشكلة في الغنى، بل في القلب الممتلئ بمحبة المال، الفارغ من محبة الله. الإنسان الذي يعتمد على ما يملك، يصعب عليه أن يشعر بالحاجة إلى النعمة. لذلك قال الرب إن الأمر مستحيل على البشر، لأن قلب الإنسان لا يستطيع أن يحرر نفسه من أهوائه بقوته الخاصة، لكن المستحيل يصبح ممكنا بالنعمة الإلهية. هذا ما أكده القديس مكاريوس الكبير بقوله: «النفس إذا لم تأت إليها النعمة من فوق، لا يمكنها أن تتحرر من رباطات الشر». أحيانا، قد نجرب بأن نضع ثقتنا في ما نملك من شهادات وخبرات ومعارف، أو حسابات مصرفية ومراكز عالية، أو ارتباطات نستقوي بها، لكن الرب يذكرنا بأن كل هذا زائل، وأن كنزنا الحقيقي في السماء. قال الرب للشاب: «إن كنت تريد أن تكون كاملا فاذهب وبع كل شيء وأعطه للمساكين، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني». عندما نختبر العطاء السخي، والتخلي الطوعي، والتواضع والمحبة نزداد غنى في الله. لذلك يربط الآباء القديسون بين هذا النص وبين التطويبة: «طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات». الفقر بالروح هو العيش بقلب حر معتمد على الله وحده لا على الذات".

وقال: "لو وضعنا نحن اللبنانيين ثقتنا في الرب، واعتمدنا عليه وحده، واستجدينا نعمته، لكنا تحررنا من رباطات الشر ووفرنا على أنفسنا وعلى بلدنا الكثير من السقطات، لكن بعض اللبنانيين يعتمدون على أموالهم ومراكزهم ومواقفهم أو على قدراتهم الذاتية أو قوتهم قبل اعتمادهم على الرب، أو بعيدا عنه، ظانين أن المراكز والأموال والسطوة وكل المكتسبات أبدية، متناسين أن لكل شيء نهاية. الصحة والعمر والمال والأعمال والمراكز والبأس والحظوة والزعامة كلها زائلة وليس أبدي إلا الله، لذلك على الإنسان أن يحسن استعمال النعم والوزنات والمواهب الممنوحة له من الله لكي لا تكون عثرة له بل بابا للخلاص. إن دعوة المسيح للشاب الغني موجهة لكل منا. ليست دعوة للحزن كما فعل الغني، بل دعوة للفرح الذي لا يسلب، لأن من يترك كل شيء لأجل المسيح، يأخذ أضعافا هنا وحياة أبدية هناك. فلنتذكر أن ما نتركه في سبيل المسيح لا نخسره، بل نحفظه في السماء حيث لا يفسد ولا يسرق ولا يزول".

وختم: "يريد الرب أن يحرر قلوبنا من كل رباط حتى نحبه بكل كياننا، وحتى نخلص. فلنسأل نعمة الرب ورحمته، وهو ينير سبيلنا ويعتقنا من كل قيد ويجعل المستحيل ممكنا، ويحول محبتنا من أرضية إلى سماوية".

 

Posted byKarim Haddad✍️

 المطران الياس عودة: الساكت عن الظلم ليس بريئا بل مشارك في الإثم والخطيئة
September 7, 2025

المطران الياس عودة: الساكت عن الظلم ليس بريئا بل مشارك في الإثم والخطيئة

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عودة خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس. وبعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "يفتح إنجيل اليوم أمامنا بابا واسعا لفهم سر محبة الله للعالم، ولإدراك عمق التدبير الإلهي الذي تم من أجل خلاصنا. في الكلمات القليلة التي سمعناها نجد خلاصة التدبير الخلاصي كله حيث يتقاطع النزول والصعود، الموت والحياة، الدينونة والرحمة، في شخص واحد هو يسوع المسيح ابن الله المتجسد. يبدأ النص بتأكيد على أنه لا أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل منها، أي المسيح نفسه. فالطريق إلى الآب لا يفتح إلا عبر الإبن، لأنه هو وحده «ابن البشر الذي هو في السماء» الذي يعرف الآب معرفة كاملة، ويحمل إلينا حياة السماء. يقول القديس كيرللس الإسكندري: «إن المسيح نزل ليلتحم بنا، ويصعد ليحملنا معه». هنا يكمن سر التجسد، فابن الله صار إنسانا ليدخل الإنسان في شركة الحياة الإلهية. هذه ليست حركة رمزية أو مجازية، بل فعل حقيقي من المحبة الإلهية التي لا تقاس".

أضاف: "يشبه المسيح رفعه على الصليب برفع موسى الحية النحاسية في البرية، حين تذمر الشعب وأصابتهم الحيات القاتلة، فأعطاهم الله علامة للخلاص، هي حية نحاسية معلقة، من نظر إليها بإيمان نجا. هذه العلامة، كما يوضح القديس يوحنا الذهبي الفم، كانت «رمزا مسبقا للصلب»، حيث يعلق المسيح نفسه على خشبة ليبطل سم الحية القديمة، أي إبليس. كانت الحية أداة الموت منذ الفردوس، لكن المسيح جعل من صليبه دواء للحياة، محولا آلة الموت إلى ينبوع خلاص. إن النظر بإيمان إلى المسيح المرفوع يشفي من سم الخطيئة والموت، كما شفي العبرانيون من لدغات الحيات. «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد». إنها خلاصة الإنجيل كله. محبة الله ليست محبة عابرة ولا عاطفة بشرية، بل محبة إلهية جوهرية، دفعت الآب ليرسل ابنه الوحيد إلى الألم والموت من أجلنا. المحبة الإلهية ليست شعورا، بل عمل خلاصي وبذل حقيقي وتضحية لا محدودة. لم يكتف الله بأن يعطينا شريعة أو أنبياء أو كلمات تعزية، بل أعطانا ابنه الوحيد لنمتلئ منه ونخلص به. أحب الله العالم وبذل ابنه الوحيد « لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية». ليس الهدف من هذا البذل أن يدين الله العالم. كثيرون يظنون أن الله يترصد البشر ليدينهم على خطاياهم، لكن المسيح يوضح أن مقصده هو الخلاص لا الدينونة التي تحصل تلقائيا عندما يرفض الإنسان النور ويختار الظلمة. المبادرة الإلهية هي دائما للرحمة، كما يقول القديس إيريناوس: «مجد الله هو الإنسان الحي، وحياة الإنسان هي رؤية الله». الله لا يسر بهلاك الخطأة، بل يريدهم أن يتوبوا ويحيوا. هنا يظهر التباين بين فكر الله الساعي إلى الخلاص والمصالحة، وفكر العالم المادي الساعي وراء الكسب والتسلط والإنتقام والقصاص، وإلا كيف يفسر ازدراء القيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية، والمواثيق الدولية، وقتل الأبرياء، وتجويع الأطفال، ومحو المدن والحضارات؟ والساكت عن الظلم والقتل والإزدراء بحياة خليقة الله ليس بريئا بل مشارك في الإثم والخطيئة".

وتابع: "إذا نظرنا إلى واقعنا اليوم، نجد أن العالم لا يزال بحاجة ماسة إلى الرحمة والمحبة والتواضع والتوبة، وإلى فهم هذه العبارة: «لم يرسل الله ابنه ليدين العالم، بل ليخلص به العالم». فإذا كان قصد الله الخالق خلاص العالم، كيف للإنسان المخلوق أن يدين العالم أو يدمره؟ من يقتل ومن يدفع للقتل أو يتسبب به وبهدم بيوت الناس والعبث بحياتهم والتلاعب بمصيرهم يسيئ إلى خليقة الله التي افتداها المسيح بدمه ليخلصها. في هذا الزمن الذي يضج بالعنف والظلم والإنقسامات والحروب، حيث تبنى المجتمعات على البطش والأنانية، نحن بحاجة إلى اكتشاف حقيقة أن الله لم يتركنا رغم خطايانا وزلاتنا، بل دخل تاريخنا، شاركنا آلامنا وحمل ضعفنا ليحول الظلمة إلى نور واليأس إلى رجاء. في كل مرة ننظر إلى الصليب، علينا أن نتذكر أنه ليس علامة دينونة، بل علامة حب أقوى من الموت. هذه المحبة ليست فكرة عامة أو عاطفة مبهمة، إنما هي دعوة شخصية لكل منا. المسيح مات على الصليب «لكي لا يهلك كل من يؤمن به». لكن الإيمان ليس قبولا عقليا، بل تسليم كامل للذات، ودخول في علاقة حية مع المسيح. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: «ما لم يتحد بالمسيح لم يشف». الإيمان الحقيقي هو أن نتحد بالمسيح في حياتنا وأفكارنا وأعمالنا، وأن نسمح لمحبته أن تعيد تشكيلنا، حتى نصبح نحن أيضا أيقونات حية للمسيح في هذا العالم. وإذا كان الله قد بذل ابنه الوحيد من أجلنا، فكم بالحري علينا نحن أن نبذل أنفسنا بعضنا لأجل بعض، لأن المحبة التي اختبرناها في المسيح ليست لتحفظ لأنفسنا، بل لتفيض على الآخرين. في عالمنا الذي يمجد الفردية والمصلحة الشخصية، يطلب منا الرب أن نكون شهودا لمحبة غير مشروطة، مستعدة للعطاء والبذل حتى النهاية. هنا تبرز مسؤولية الكنيسة اليوم في أن تظهر وجه المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات، وأن تكون مكانا يشفى فيه الجرح البشري من سم الكراهية واليأس، وأن تعلن أن المحبة هي الكلمة الأخيرة في التاريخ، والفعل الأسمى".

وختم: "هذه الدعوة لا تعاش بسهولة، إذ تتطلب صراعا داخليا، وجهادا روحيا، وتواضعا وتخليا عن الأنا والكبرياء، وانفتاحا دائما على نعمة الله. لكننا لسنا وحدنا في هذا الطريق، لأن المسيح القائم حاضر معنا بروحه القدوس، يقوينا ويعضدنا وينير سبيلنا. فلنرفع أنظارنا نحو المسيح المصلوب، كما رفع العبرانيون عيونهم نحو الحية النحاسية، ناظرين إليه بإيمان حي، وواثقين بأنه وحده قادر أن يشفي جراحنا ويمنحنا حياة لا تزول. ولنسمح لمحبته أن تدخل قلوبنا وتحولها، لنصير نحن أيضا أدوات خلاص للآخرين، لا دينونة لهم. هكذا، نكون شهودا أمناء لخبر سار لا يشيخ: أن الله أحب العالم، وأحب كلا منا، حتى بذل ابنه الوحيد لنحيا فيه ونمجد اسمه القدوس إلى الأبد".