https://www.traditionrolex.com/8


أغاني المهرجانات... "الرّسمي" يطارد "الشّعبي"


On 24 November, 2021
Published By Karim Haddad
أغاني المهرجانات... "الرّسمي" يطارد "الشّعبي"

ارتبطت جذور الإبداع العربي من شعر وغناء بمجالس الخلفاء والأمراء. ومعظم تراثنا كان للتسرية عن علية القوم مقابل عطايا.

ولليوم احتفظ الغناء بهذه الفلسفة، فهو يؤدى في أعراس الباشوات والميسورين وحفلاتهم الخاصة. كما أصبح مكملاً للرقص في الملاهي الليلية، التي حلت بديلاً من مجالس القصور.

هذا لا يعني أن الشعب الفقير لم يكن لديه تراثه، الذي اتّسم بالحسية، والانفلات من الرقابة، تلميحاً وتصريحاً.

لم تكن الصلة منقطعة آنذاك بين "الناس اللي فوق" و"الناس اللي تحت"، فبعض الأغاني الشعبية ذات الإيحاءات وجدت طريقها إلى ملاهي السادة، ولم يفلت من ذلك التأثير كبار المطربين مثل منيرة المهدية صاحبة أغنية "ارخي الستارة اللي في ريحنا"، ونعيمة المصرية في "هات الإزازة واقعد لاعبني" ألحان الشيخ زكريا أحمد. حتى أم كلثوم نفسها غنت "الخلاعة والدلاعة مذهبي".

 

منيرة المهدية

كان هدف هذه الأغاني الشهرة وجني المال، واستمرت "الشعبيات" عبر أجيال، فوجدت متنفساً لها في ملاهي شارع الهرم (وريث شارع عماد الدين) حتى تسعينات القرن الماضي.

اتجه المطربون الشعبيون مثل شفيقة ورمضان البرنس وشعبان عبد الرحيم وعبد الباسط حمودة، للأفراح الشعبية وإصدار شرائط الكاسيت.

خلال مئة عام من التنافس والتداخل بين "الرسمي" و"الشعبي"، سعت الدولة للارتقاء بالفنون، عبر إنشاء المعاهد، ولجان الرقابة والإجازة، وإطلاق النقابات، وتحديد معايير من يغني في الإذاعة والتلفزيون.

وأثمر هذا كله تراثاً عظيماً من الإبداع على مستوى الموسيقى والشعر والأداء، في مقابل تراجع الهامش إلى ظواهر عرضية عابرة مثل أغنية "لولاكي"، أو أغنية حمدي باتشان: "إيه الأساتوك دا.. اللي ماشي يتوك دا.. عيب عليك في السن دا.. يطلع منك كل دا".

 

 

 

 

دراسة وموهبة

طرح التصور الرسمي معياراً مزدوجاً عن ضرورة صقل الموهبة بالدراسة، لكن أليس من حق من لم يدرس، أو لا يتمتع بموهبة كبيرة، أن يغني؟

حدث هذا الصراع مع شعبولا القادم للغناء من مهنة "المكوجي"، وقبله مع عدوية رغم تمتعه بموهبة طربية كبيرة.

كان يُسمح لهم بالغناء، وتعبئة شرائط الكاسيت، لكن لا يتم الاعتراف الرسمي بهم، وإجازتهم واستضافتهم في الإذاعة والتلفزيون.

 

 

طبيعة الكلمات

لجأت أم كلثوم إلى شعراء كبار مثل أحمد رامي وجورج جرداق والهادي آدم وبيرم التونسي، وأدت كلمات تستوفي كل المعايير الجمالية والأخلاقية.

بينما كان للتيار "الشعبي" وجهة نظر أخرى، فهو يلتقط كلماته البسيطة من أفواه وتعبيرات الناس مباشرة، والتي تتغير من عصر إلى آخر. ينتقيها كما هي، وبلا تهذيب يذكر مثل "السح الدح إمبو"، ولا شك بأن هذا أثار أزمات، وحروباً حول الإيحاءات.

أحس البسطاء أن "يا بنت السلطان محسوبك عطشان" تمثلهم أكثر من "يا فؤادي لا تسل أين الهوى؟". وهكذا كان يتم تهريب الأغاني الشعبية دائماً عبر مسارات بعيدة من كل ما هو "رسمي". وبات جمهورها من سائقي الميكروباص والتاكسي.

 

 

مزاج موسيقي

في بدايات القرن العشرين كانت هناك نهضة تسعى لتخليص الموسيقى العربية من الرتابة التركية، وتحاول هضم القوالب الغربية مثل "التانجو". أما الشعبيات فاشتغلت على إيقاعات بسيطة وراقصة، تناسب احتفالات البسطاء. حتى لو كانت الكلمات حزينة، يحتفظ اللحن بروحه الصاخبة الراقصة.

وفي الثمانينات، قاد حميد الشاعري ثورة بتوظيف آلات إلكترونية، وإيقاعات خفيفة سريعة. ورغم أنه قدم كلمات مقبولة اجتماعياً، لكنه حورب، وجرت محاولات لمنعه وتهميشه، بزعم إفساد الذوق العام.

صراع طبقي

لا يقتصر الصراع على تباين ألوان الموسيقى والكلمات، ولا طريقة الأداء واللبس للمطرب. بل هو في صميمه صراع طبقي، بين من هم في السلطة، ومن هم خارجها، من يحظون بالاعتراف والدعم، ومن لا يسمع بهم أحد. أغنيات ولدت في أعراس تقام في أزقة معتمة بأقل التكاليف لإسعاد فقراء، ولا تقام في فنادق الخمس نجوم.

من هذا المنطلق، نشأت فرق "الأندرغراوند" التي تقديم تجربتها للناس في الشوارع، وحفلات الطلاب، بعيداً من القنوات الرسمية، مع تأثرها بالموسيقى الأجنبية والآلات الكهربية، واختيار كلمات من قاموس مغاير للرسمي، ومن أبرزها فرق "كايروكي" و"مسار إجباري".

ونجحت بعض الفرق في نيل الاعتراف، خصوصاً أنها تحتفظ بمستوى جيد من الكلمات ومواهب العزف والغناء الجماعي.

 

 

ثورة يناير

عبرت ظاهرة "الأندرغراوند" عن تمرد أبناء الطبقة الوسطى من المتعلمين والموظفين. لكن ظاهرة أخرى نافستها عقب ثورة يناير حملت اسم "المهرجانات"، وهو اسم احتفالي صاخب.

"المهرجانات" أكثر راديكالية، وأكثر تطرفًا في انتقاء عبارات وصور قد توصم بالابتذال. فهي لا تعبر عن الشعرية المتعارف عليها، مثل الوزن والقافية والتفعيلة، بل أقرب لاسترسال حر يمزج "الراب" و"التكنو".

كلتا الظاهرتين ازدهرتا عقب ثورة يناير 2011، وعبّرتا عنها، في غفلة من الرقيب الرسمي. فهما نتاج مباشر لمساحة حرية غير مسبوقة.

على ظهر التكاتك

تسير ملايين التكاتك في شوارع مصر، حاملة معها قيمها وأغانيها المفضلة. وإذا كان "الميكروباص" قد حمل على عاتقه توصيل "الشعبيات" في الثمانينات، فإن هذا الدور انتقل إلى "التوكتوك" في العقد الأخير. فالمهرجانات وصلت للناس على ظهر التكاتك.

وبسبب كثرتها، وإيقاعاتها الصاخبة، بدا الأمر كأننا إزاء حفلة مهرجانات ضخمة تقام في كل شوارع مصر. تستطيع أن ترفض "المهرجانات" ولا تحضر حفلاتها، لكنها لن تتركك في حالك، سيمر بها كل دقيقة "توكتوك" عابر تحت نافذتك.

إنها أغنيات تمثل أخلاق "الزحام" ومواصلاته المتواضعة، وضيق الحارات، وهشاشة الخدمات الصحية، ولا تخلو من نقد سياسي صريح ومبطن، وتظل محتفظة بحيوية إيقاعها الذي يغنيك عن الانشغال بمعنى الكلمات. ولا تتطلب أي موهبة أو حسن صوت، فقط براعة المؤدي في ملاحقة الإيقاع و"رص الكلام".

وهكذا هدد "الهامش" الغنائي التصورات الرسمية، نتيجة لتداخل عوامل عدة: انتشار التكاتك، مساحة الحرية التي أتيحت عقب ثورة يناير، انتقال الثقل الإعلامي للسوشيال ميديا، حيث يتم رفع وتداول المهرجانات بسرعة قياسية، وأخيراً الفراغ الحاصل نتيجة خروج الثقافة تقريباً من معادلة الدولة على عكس ما كان الوضع أيام عبد الناصر.

 

 

انقلاب

بالنظر إلى قرار النقابة بإيقاف قرابة عشرين مؤدياً من نجوم المهرجانات يحملون أسماء مثل: حمو بيكا، كزبرة، شاكوش، شواحة، موزة، طيخة، والعصابة، فنحن أمام قطيعة تامة مع الصورة النمطية للمغني، بدءاً من الاسم، والشكل والأزياء، وطريقة الأداء.

وكان بالإمكان أن تمر الظاهرة مثل سوابقها من "الشعبيات"، إلا أن العوامل التي أشرنا إليها، وفرت لها أرضاً خصبة وصلبة، فأصبح نجوم المهرجانات مطلوبين في أعراس "الناس اللي تحت" عن طريق "الدي جي"، وأعراس "الناس اللي فوق" بحضورهم الجسدي. بل وفي حفلات وطنية، ومجال الإعلان والدعاية، والأفلام والمسلسلات.

مع النجاح الهائل، والأرباح الطائلة، انقلب حضورهم من الهامش إلى المتن، في حين أن مطربين بمستوى المزاج "الرسمي" مثل نقيب الموسيقيين نفسه هاني شاكر، أو مدحت صالح، لن يحظوا بالمساحة ذاتها الآن.

في السابق لم يكن الرسمي "مهدَّداً"، ولا يتصور أن مطرباً شعبياً مثل محمد طه، رغم نجاحه الأسطوري، قد يهدد أم كلثوم. الآن حمو بيكا يهدد مساحة هاني شاكر مباشرة.

 

 

 

 

ذوق وأخلاق

أغنيات مهرجانات كثيرة ضربت واشتهرت في مصر والعالم العربي، منها "إلعب يلا"، و"ما فيش صاحب يتصاحب"، و"بنت الجيران"، و"اندال اندال"، و"إخواتي". كلها حملت كلمات معبرة عن جمهورها، بكل فقره وابتذاله ورغباته.

في مهرجان "أندال" بدلًا من الصورة البلاغية عن غدر الأصحاب يقول المؤدي: "هو أنا زعلتك يا ابني؟ عمال تكحتني في ضهري!".

وعندما يعبّر عن علاقته بحبيبته يقول: "مُزتي حقها تتدلع... وكمان تعمل اللي عاجبها... مع انها لاسعة شوية... بس دي عندي أنا بالدنيا". كلمات أقرب للبذاءة والغزل الصريح.

إن مؤدي المهرجان لا بد أن يصل بتمرده الفردي لأقصى مداه، ويكون قادراً على الانتقام وأخذ حقه بذراعه: "ع الدوغري أنا هاضرب نووي... ع البعد مضادك حيوي".

المعاني في "أندال" تتكرر بالركاكة نفسها في معظم المهرجانات، الحسية في العلاقة العاطفية الغريبة الأطوار، والانتقام وإثبات الرجولة، والصداقة و"الجدعنة".

والمفارقة أن مهرجان "أندال" حقق أكثر من مئتي مليون مشاهدة على اليوتيوب، بما يفوق كل أغاني هاني شاكر مجتمعة.

هنا مكمن الخطورة، أن هذا الخطاب المشجع على الانحراف والعنف، والمضاد لكل ما هو رسمي، خرج من حيزه الضيق: الأعراس الفقيرة في الأحياء الشعبية، ليصبح نموذجاً يحتذى بين الشباب. كأنه تعبير عن الأصوات المقموعة من السلطات الدينية والسياسية والاجتماعية.

لذلك تحدثت نقابة الموسيقيين في بياناتها عن دورها في الحفاظ على الذوق والأخلاق العامة والارتقاء بالفن ضد هذه الهجمة.

وتحدث هاني شاكر مراراً عن "تعديل أوضاع مؤدي المهرجانات"، وأنه وفر مدرّسي موسيقى لبعضهم. كما طالب بإجازة الكلمات قبل أدائها... وكلها محاولات لتدجين "المهرجانات" وإخضاعها لـ"الرسمي"، ومن ثم سوف تفقد حيويتها وعفويتها.

من انتصر للقرار مثل الملحن حلمي بكر، رأى فيه تأطيراً قانونياً للحرية السائلة، فليس من حق أي أحد أن يخرج عارياً أو يغني أي كلمات خادشة للحياء العام، وأن "الرقابة" ضرورية في كل مناحي الحياة لضمان الجودة والارتقاء بالذوق العام.

ومن عارضوا القرار، وفي مقدمهم رجل الأعمال نجيب ساويرس، لأنه ببساطة لا يمكن فرض وصاية على "ذوق" الناس، وبالعكس سيؤدي لنتيجة عكسية حيث "الممنوع مرغوب"، وأنه من حق كل مغن أن يختار الطريقة المناسبة له، والحكم للجمهور وحده.

 

وثمة من يرد توحش ظاهرة "المهرجانات" لغياب البدائل، فلا مناهج ترتقي بالذوق وتذوق الفنون، ولا حصص للموسيقى والغناء في المدارس. فمؤدو المهرجانات لم يفسدوا الذوق العام، بل هم نتيجة مباشرة لفساده من الأساس.

وبعدما كان "الشعبي" يطارد "الرسمي" لنيل اعتراف منه، بات "الرسمي" هو من يطارده بعدما سحب البساط منه: حفلات وشهرة وأموالاً.

المصدر: "القاهرة- النهار العربي شريف صالح"






إقرأ أيضاً

مأتم رسمي وشعبي حاشد ... كوسبا وبلدات الكورة شيعت الراحل فايز غصن
بهاء الحريري يدخل السياسة اللبنانية.. "لم أستطع أن لا أفعل شيئاً"

https://www.traditionrolex.com/8