رفيق الحريري.. السياسة فن الممكن والحكم وصناعة المناصب


On 14 February, 2020
Published By Karim Haddad
رفيق الحريري.. السياسة فن الممكن والحكم وصناعة المناصب

 الاثنين 14 شباط 2005، الأولى إلا خمس دقائق بتوقيت بيروت. كل شيء في ذلك النهار كان يدل إلى أن لبنان سيحتفل بعيد الحب، رمز الحب. إلى أن حلت تلك اللحظة... انفجار عنيف يهز وسط بيروت التجاري، ويلون لبنان بصبغة حمراء من نوع آخر. إنه الأحمر، لون الدم والشهادة كتب فصلها هذه المرة الرئيس رفيق الحريري، و21 شخصا آخرين، ذنبهم الوحيد أنهم تواجدوا في المكان الخاطئ في التوقيت الخاطئ، ليقعوا ضحية انفجار سيارة مفخخة أريد منه الاجهاز على أبرز الوجوه المعارضة للوصاية السورية على لبنان... في المكان الأحب إلى قلبه إطلاقا، بيروت.

لم تهز جريمة بهذا الحجم أسس لبنان وكيانه منذ اغتيال الرئيس الشهيد بشير الجميل في 14 أيلول 1982. بين شهيدي 14 أيلول و14 شباط قواسم مشتركة كثيرة ليس أقلها النضال في سبيل وطن أفضل، كل من موقعه وعلى طريقته و...في زمنه. وإذا كان الزمن يتقلب ويتغير على وقع الأحداث الكبيرة والصغيرة التي تطبعه في منطقة صعبة كالعالم العربي، فإن ثمة ثوابت سيبقى التيار الزمني والتاريخ عصيين عليها وعلى أي تغيير فيها. قد يكون الرئيس الشهيد رفيق الحريري من أكثر الوجوه السياسية اللبنانية إثارة للجدل سواء في خياراته الاقتصادية أو السياسية، أو في علاقاته الدولية. لكن الأكيد أن التاريخ، عندما يتفق اللبنانيون على كتابته موحدين سيعترف للحريري بأنه ترك بصمة أساسية في هذا الوطن، في حياته كما في مماته. كيف لا وهو الذي شغل العالم ووضع لبنان على الخريطة العالمية، يوم دخل الحياة السياسية والاقتصادية محمولا على "حرير" اتفاق الطائف الذي وضع حدا للحرب الأهلية البغيضة، ويوم خرج منها محمولا على أكف اللبنانيين في نعش أراد له المجرمون أن يكون المحطة الأخيرة من مواجهة اعتقدوا أن من شأن التصفية الجسدية أن تضع حدا لها. لكن ما حصل بعدها لم يكن في الحسبان. أطلق رفيق الحريري، من عليائه، ومع سابقيه ولاحقيه على درب الاستشهاد ثورة أولى في سبيل الحرية والسيادة والاستقلال، تجلت في 14 آذار 2005.

لكن قبل الرحيل، بدا الحريري حريصا على ألا يمر على هذه البلاد مرور الكرام، فكانت له البصمات الأكبر او الأهم في الاستثمار في الانسان والاقتصاد لبناء وطن يليق بشبابه وشاباته وأحلامهم، على اعتبار أن الوقت حان لنقل البلاد من حال الحرب والتصدع والدمار والموت إلى الحياة والنجاح والرخاء الاقتصادي. لكن الأهم يكمن في أن رفيق الحريري أيقن باكرا أن الحياة أكثر من مجرد محطة لا يتكل فيها إلا على الحظ والقدر. فعرف قيمة العمل بجهد وكد للوصول إلى المناصب وصناعتها.  من باب الطائف السعودية، تحول رفيق الحريري من رجل أعمال كسب رهان العائلة السعودية المالكة إلى رقم صعب في المعادلة السياسية، إلى أن بلغ السراي الحكومي، مقتنعا بأن "لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك". مستفيدا من موقعه الجديد هذا، أطلق الحريري عجلة الاقتصاد والاستثمار، فحقق حلمه في إعادة إعمار وسط بيروت، من خلال شركته سوليدير، وإن كانت أعمال الحفر أتت في بعض الأحيان على حساب الهوية التراثية التاريخية، فكان أن واجه الحريري حملة إعلامية شرسة في هذه الفترة. غير أن هذا النوع من المطبات لا يقف أمام الطموح السياسي والشعبي والاقتصادي لرجل كانت له اليد الطولى في الاستثمار في الانسان والأجيال المتعاقبة، كما في دفع عجلة الإقتصاد والسياحة العربية والعالمية في لبنان قدما، بدليل الأفواج الكبيرة من المستثمرين العرب والأجانب الذين كان الحريري ورقة بقائهم الرابحة في لبنان، بعد أن نهض بالبلاد والعباد وبسعر صرف الليرة الذي ثبته عند الـ 1500 ليرة لبنانية، وعاد اليوم، بعد عقد ونصف على استشهاد الحريري، إلى التقلب في أعاصير العرض والطلب في السوق الموازية.

وفيما يبدو النجاح حليف الحريري الأول في المجال الاقتصادي، فالحلبة السياسية لا تزال تذكره مرادفا للاعتدال السني في مواجهة التطرف، وخصما شريفا نديا لعهدي الرئيسين إميل لحود والياس الهراوي، اللذين كان رأس حربة معارضة التمديد لهما. اتقن الحريري فن مواجهة النظام السوري ومعارضته حتى الرمق الأخير على المستويين السياسي  والشعبي. بدليل أن الرئيس فؤاد السنيورة (الأقنوم الآخر لما يعرف بـ "الحريرية السياسية" لا يزال يذكر الاجتماع العاصف بين الحريري والرئيس السوري بشار الأسد الذي تلقى فيه تهديدا مباشرا بـ "تدمير البلد على رأسه". مسلسل دام بدأت أولى حلقاته عندما كان الحريري يجهد لتأطير المعارضين للنفوذ السوري، من غير أن يتيح له قدره الأسود تحقيق هذا الحلم...

15 عاما ثقيلة عاشها لبنان من دون رفيق الحريري باعتداله وسياسته ومعارضته ونفوذه العربي والدولي، وهو اليوم يحيي ذكراه على وقع تصدع المشهد السياسي والاقتصادي الذي أرساه الحريري الأب، وفي وقت يجهد الحريري الابن للمضي في رفع راية الاعتدال، في مقابل شعب ثائر يسعى إلى تأمين حقه في التغيير. قد يكون هذا المشهد أجمل وردة يقدمها الشعب اللبناني إلى رفيق الحريري، وإن كانت الهامات من طينته لا تعترف بلحظات الغياب..

المصدر: "وكالة الأنباء المركزية"


إقرأ أيضاً

الراعي مستذكرا الحريري: بحق كل الدماء لتكن بداية لحياة جديدة في لبنان
"الوطني الحر" يفصل احد مؤيدي شامل روكز و الأخير يعلق على فصل العضم